الحضارات البشرية ومركزية البحث العلمي Scientific Research
دراسة تاريخ العلوم من أكثر الدراسات متعة وتحفيزًا،
لأنها توضح كيف انتقلت البشرية من الصورة البدائية للأشياء إلى صورتها الحالية
المعقدة التي تم تطويرها على مر الزمان. فعلى سبيل المثال، كيف تدرجت قدرة الإنسان
من مجرد النظر إلى السماء للنظر إلى النجوم إلى قدرة الإنسان الحالية حيث الانطلاق
إلى الفضاء والوصول إلى القمر والمريخ؟!
الهدف من هذه المحطة التأكيد على ما سبق ذكره في المحطة
الأولى، وسيتم التعرض لنقاط مثل: كيف تتوالى الحضارات؟ بدءًا من الحضارة الفرعونية
وحتى الحضارة الحديثة بمفرداتها ومبادئها الجديدة، وكيف تتم الاستفادة بين البشر
من مختلف الحضارات بترجمة اللغات المختلفة؟، وكيف يعرض الباحثون أفكارهم ونتائجهم
العلمية دون تحيز لفئة أو للحضارة التي ينتمون إليها مما ساهم في إفادة البشرية
ككل وليس فئة بعينها؟
وليس الهدف هو سرد قصص من التاريخ، إنما ذكر العلماء
والبحث والقراءة عن إنجازاتهم العلمية، فهذا هو الغرض الأساسي من هذه المحطة. فبعد
القراءة عن هؤلاء العلماء، ستجد أنه لا فارق بينهم وبينك أيها القارئ إلا بعض
المهارات التي عملوا على تطويرها وممارستها حتى وصلوا لإنجازاتهم.
الحضارة الفرعونية
تعتبر أول حضارة دونها التاريخ( 6000
ق. م: 332 ق.م). وامتدت تلك الحضارة كما هو معروف على
ضفاف نهر النيل، واستفادت معظم الحضارات اللاحقة استفادة كبرة منها وخصوصًا في
استخدام الكتابة، فقد استخدمت هذه الحضارة ورق البردي والرموز للتأريخ والتوثيق،
وتم فك رموز هذه الكتابة في العصر الحديث مما ساهم في معرفة ما أراد القدماء
المصريون توثيقه لنا.
برع المصريون القدماء في علم الرياضيات، وذلك لحل
المشاكل التي واجهتهم مثل فيضان النيل، كما دفعهم ذلك إلى تطوير علم الفلك من أجل
تحديد العلاقة بين المد والجزر، ولفهم العلاقة بين منسوب المياه والزمن. وقد كان
تفوق هذه الحضارة نتيجة الإيجابية والسعي نحو إيجاد الحلول للمشاكل التي واجهتهم.
لذا لكي ينجح الباحث يجب أن يتحلى بالإيجابية مما سيمكنه من تحقيق الفائدة ليس فقط
لنفسه بل للبلد التي ينتمي إليها.
وقد ساهمت أوراق البردي في فهم الكثر من الأحداث
المرتبطة بالحضارة الفرعونية، ومن الممتع فعلًا أن تتوقف قليلًا لتقرأ عنها، حيث
ستجد الكثر من المقالات المتعلقة بهذه الحضارة إذا قمت ببحث بسيط على الإنترنت.
الحضارة اليونانية (الإغريقية)
بعد الحضارة الفرعونية، توالت الحضارات في العراق
والهند واليونان، لكن تميزت الحضارة اليونانية 776
ق. م: 146 ق.م بمنهجية للتفكر والمنطق. ومن الفوارق في
البحث العلمي بين الحضارة المصرية القديمة واليونانية القديمة أن المصريين القدماء
طوروا حلوًلا للمشاكل التي تعرضوا لها كخطر الفيضان، أما الحضارة اليونانية فمع
تطوير حلول لما واجهوه من مشاكل، أضافوا أيضًا العلوم الفلسفية وعلوم المنطق
والاجتماع، كما أن استخدام التفكر العلمي والملاحظات والقياس في التحليل العلمي من
أهم السمات التي تميزها.
من أشهر أعلام تلك الحضارة الفيلسوف أفلاطون Plato،
معلم أرسطو الذي أسس أول أكاديمية علمية في الحضارة الإغريقية. اعتمد أفلاطون على
التفسر الفلسفي للوصول للحقيقة، بينما اعتمد أرسطو على التفسر المنطقي العقلي
للوصول إلى الحقيقة. والصورة أدناه من إبداعات الفنان رافايللو ويظهر فيها أفلاطون
وأرسطو في نقاش يشر فيه أفلاطون إلى السماء مستندًا إلى الفلسفة في تفسر ما يحدث
بينما يشر أرسطو إلى الأرض قاصدًا التفسر العقلي والمنطقي من خلال الخبرة
والتجربة.
ويجب التوقف هنا عند مقولة رائعة لأرسطو يقول فيها: «
أفلاطون عزيز علي، لكن الحقيقة أهم». حيث تحتوي هذه الجملة على قيمة مهمة
جدًا، ألا وهي ضرورة الفصل بين احترام المعلم والوصول إلى الحقيقة دون تحيز؛
فاحترام المعلم واجب مهما اختلفت معه في الرأي، لكن الوصول إلى الحقيقة هو الأهم.
كانت الحضارة الإغريقية عموًمًا تفتقر إلى اختبار
الفرضيات التي تفسر الظواهر لإثبات صحتها، بمعى هل التفسر المنطقي العقلي لظاهرة
ما صحيح أم خاطئ؟ مثلًا، من المنطقي أن تسقط الريشة بعد الحجر لأنه أثقل وزًنًا،
لكن هل آلية الجاذبية تعمل على هذا النحو؟
الحضارة الإسلامية
اعتمدت الحضارة الإسلامية( 600
ميلاديًا:1600 ميلاديًا) على الطرق التطبيقية والتجارب
أكثر من النظريات ،ويعد مؤرخو البحث العلمي تلك الفترة بداية استخدام الطرق
العلمية المعتمدة على التجارب التطبيقية.
يعتبر الحسن بن الهيثم من أوائل العلماء الذين
استخدموا منهجية للبحث العلمي تعتمد على التجربة ونقد كتابات القدماء بالحجة
والبرهان في سبيل البحث عن الحقيقة.
« ليس الباحث عن الحقيقة من يدرس كتابات
القدماء على حالتها ويضع ثقته فيها، بل هو من
ُيعلق إيمانه بهم ويتساءل ما الذي جناه منهم. هو الذي
يبحث عن الحجة ولا يعتمد على قول إنسان طبيعته يملؤها كل أنواع النقص والقصور.
ولهذا يجب على من يحقق في كتابات العلماء، إذا كان البحث عن الحقيقة هدفه، أن
يستنكر جميع ما يقرؤه، ويستخدم عقله حتى النخاع لبحث تلك الأفكار من كل جانب.
وعليه أن يتشكك في نتائج دراسته أيضًا، حتى يتجنب الوقوع في أي تحيز أو تساهل.»
-ابن الهيثم
يجب على الباحث عن الحقيقة ألا يقتبس مسلمات من كتابات
العلماء السابقين فقط، ولكن يجب أن يتساءل ما فائدة هذه المسلمات؟ وما هي الحجة
للثقة في هذه المسلمات خاصة أن الطبيعة الإنسانية مليئة بالنقص والقصور ،فأي ورقة
علمية مُعرضة للنقص والخطأ. فهذا النقص إما أن يتم تجاهله، وإما أن يتم البحث
والاستكشاف من خلاله، وبالتالي يجب على الباحث التساؤل عن كل ما يقرأه من جميع
الاتجاهات والنواحي، والشك فيما قد توصل إليه حتى يتجنب التحيز أو التساهل.
ويجب أن تكون التجربة البحثية قابلة للتكرار، فإذا لم
تكن التجربة قابلة للتكرار، فهي معرضة لنوعين من الخطأ وهما: خطأ بشري، وخطأ في
الأداة المستخدمة في التجربة. ومن أجل تجنب الوقوع في خطأ انحياز التجربة، لا بد
أن يتم تكرار التجربة مع الحصول على نفس النتائج في كل مرة.
ويعتبر البيروني هو من صاغ مبدأ تكرار التجربة
للتأكد من النتائج ومعرفة الأخطاء التي قد تنتج أثناء التجربة، مثل أخطاء القياس (أخطاء
بشرية أو أخطاء من الآلة) .
وتزخر الحضارة الإسلامية بالكثر من العلماء مثل ابن
سينا والذي يعد واحدًا من الرواد في تاريخ العلم .
الحضارة الأوروبية
حدثت النهضة العلمية الأوروبية في القرن الثاني عشر.
استمد علماء هذه الحضارة معرفتهم من الحضارات السابقة كالحضارة الإغريقية
والإسلامية من خلال الترجمة لمعرفة آخر ما توصلت إليه تلك الحضارات كما أضافوا لها
من خلال مساهمات بعض العلماء مثل:
فرانسيس باكون Francis Bacon 1561- 6261:
من أشهر العلماء في الحضارة الأوروبية، حيث طور منهجية البحث
العلمي، وأوضح أن الباحث إذا بدأ باليقين سينتهي إلى الشك، بينما إذا بدأ الباحث
بالشك فسينتهي إلى الحقيقة.
جاليليوGalileo (4651–2461): لم
يُضف هذا العالم فقط إلى علم الفلك والملاحظات الكونية، بل أضاف كذلك إلى منهجية
البحث العلمي. ويقول:
« كل الحقائق من السهل معرفتها بمجرد
اكتشافها فالهدف هو اكتشافها .»
-جاليليو جاليلي
وحتى هذه المرحلة، مرت المنهجية العلمية بالكثر من
النقد والشك وإعادة الهيكلة، حتى طور العالم الفذ إسحاق نيوتن 1727-1642،
منهجية للبحث العلمي تعتمد على أربع قواعد لتفسر الظواهر والاستدلال على الحقائق،
هذه المنهجية هي أساس تفسر الكثر من الظواهر العلمية في القرن الثامن عشر وحتى
بداية القرن التاسع عشر، ثم تطورت المنهجية البحثية في العصر الحديث على يد العالم
العبقري ألبرت أينشتاين.
الحضارة الحديثة
عند المقارنة بين حال البحث العلمي الآن وبين نظره خلال
المائتي عام الماضية، سنجد تطورا كبرا في جميع المجالات .فما حال دراسة علم
الجينات في القرن التاسع عشر وحالها اليوم؟ وما هو وضع علم المواد في بداية القرن
العشرين وحاله اليوم؟
اليوم بالطبع تم استخدام الكثر من الآلات والتكنولوجيا
المعقدة، بينما كانت هذه المعدات المستخدمة قديمًا بسيطة ،حيث كان الباحث يصنعها
بنفسه. ولعل ما يميز العصر الحديث أيضًا هو وجود وسيلة متميزة لتبادل الأفكار
والأبحاث مع تنقيحها ونقدها بواسطة متخصصين فيما نسميه بالنشر العلمي ومراجعة
الأقران. ونتيجة لتطور العلوم وتشعبها ظهرت المزيد من التخصصات والفروع للعلوم
وأصبح التعاون والتداخل بينها واجبين. وأصبحت منظومة البحث العلمي بالكامل تخضع
لإشراف وقوانين المنظمات الدولية التي وضعت مجموعة من الأخلاقيات يجب أن يلتزم بها
كل باحث .
النشر العلمي ومراجعة الأقران Publication and Peer Review
تضخم النشر العلمي ومراجعة الأقران بعد استخدام الشبكة
العنكبوتية، حيث يتم إنتاج الكثر من الأبحاث في مختلف التخصصات، لدرجة أن الباحث
قد يصعب عليه أن يلم بكل الأبحاث التي نشرت في نقطة بحثية ما، لذلك كان لزامًا على
الباحث أن يتأكد من أن البحث المراد كتابته سيكون مُهما ويُمثل إضافة جديدة لمجاله
البحثي، مما يتيح الاقتباس والاستفادة منه على أوسع نطاق ممكن، فهذه ستكون
المساهمة التي يمنحها الباحث للبشرية.
التعاون والتداخل بين التخصصات
في العصر الحديث كذلك تجلت أهمية التعاون بين التخصصات
-كما ذكرنا من قبل- حيث تتداخل التخصصات لخدمة بعضها البعض. فمثلًا، تتداخل علوم
الهندسة مع الطب والبيئة وتتداخل علوم الفيزياء مع الكيمياء ليطور كل منها الآخر،
ويتعاون علماء الاقتصاد مع علماء الإدارة لخدمة المجال الذين يعملون له. فالدافع
والحافز الأساسي من البحث العلمي هو خدمة وتطوير المجال الذي ينتمي إليه الباحث.
الأخلاقيات والسلوكيات
في العصر الحديث أصبحت هناك منظمات وجهات حكومية
ومؤسسية تتبى البحث العلمي وتخضع المنظومة بأكملها لمجموعة من القواعد والأخلاقيات
والقوانين، وذلك لتجنب حدوث أخطاء أخلاقية مثل السرقة الأدبية أو أخطاء تتعلق بالسلامة
والصحة المهنية. يجب أن يتحلى الباحث بأخلاقيات البحث العلمي، فهذا الأمر بالغ
الأهمية، فعدم احترام حقوق الملكية أو سرقة النصوص أو أبحاث الآخرين من خلال عدم
ذكر المرجعية البحثية لهذه الأبحاث، كل ذلك قد يؤدي إلى نهاية رحلة الباحث علميًا
وهذا ما سنتناوله لاحقًا بالتفصيل في فصل أخلاقيات البحث العلمي.
الحضارة في المستقبل
لا أحد يستطيع التنبؤ بالمستقبل بدقة مطلقة، ولكن
الاتجاه السائد للأبحاث هو كيفية الحفاظ على البيئة وتحقيق الاستدامة للموارد
المتاحة وخاصة الموارد المحدودة، ويشمل هذا الاتجاه مجالات الطاقة والموارد
المائية والفضاء والصناعة والعلوم الطبية متضمنة علوم الوراثة وتكنولوجيا النانو.
هل هذا يعي أن هناك مجالات أهم من مجالات أخرى؟ مثلًا، هل علوم الطب أهم من علوم
الأدب أو غرها؟ بالطبع لا، لأن كل المجالات تساهم في تطور الحضارة. فالبحث العلمي
يحتاج إلى إدارة مالية وتمويل مادي وبالتالي يحتاج إلى متخصصين في الإدارة
والأعمال للحفاظ على استدامة وتمويل الأبحاث. ويجب على رجال السياسة والاقتصاد
ورجال الأعمال أن يدركوا أهمية البحث العلمي حتى يلقى البحث العلمي الدعم المطلوب
.
انتهينا من المحطة الثانية ولننتقل الآن لنتعرف على بعض
النقاط الهامة عن البحث العلمي وعن الأمل في جيل الحاضر والمستقبل.
المصادر
1.
أشرف حسين محروس، قاعة
بحث: دراسة تطبيقية، كلية الآداب - جامعة المنوفية، شبين الكوم، 2008.
2.
أحمد شلبي، كيف تكتب
بحثاً أو رسالة: دراسة منهجية لكتابة البحوث وإعداد رسائل الماجستير والدكتوراة، مكتبة
النهضة المصرية، القاهرة، 1976.
3.
عبد الرحمن بدوي، مناهج
البحث العلمي، وكالة محاضرات في مناهج البحث والمكتبات، وكالة المطبوعات، الكويت،
1977.
4.
دليل فراسكاتي: الممارسة
القياسية المقترحة للدراسات الاستقصائية للبحث والتنمية التجريبية، الطبعةالسادسة).
27 مايو 2012 نسخة محفوظة 24 أبريل 2020 على موقع واي باك مشين.
5.
الحيزان،محمد عبدالعزيز.البحوث
الاعلامية.الرياض،1431
6.
ج. سكوت أرمسترونغ
وسولبرغ الأقران (1968). "في تفسير عامل تحليل". نشرة العلوم النفسية
70: 361-364
7.
تروخم، و.م.ك. مجموعة
معرفة أساليب البحث (2006)
8.
كريسويل، ج.و.
(2008). البحث التربوي: التخطيط والإدارة، تقييم والبحث الكمي والنوعي (3). أبر سادل
ريفر، نيو جيرسي: برنتس هول. 2008 ISBN 0-13-613550-1 (صفحات 8-9)
تعليقات
إرسال تعليق